المدرسة القرآنية

مراكز الإحياء الديني ودورها في بعث الشعور الوطني والقومي في الجزائر ــ دار القرآن الكريم ــ بأرض القعدة من بادية امهاجة

تقديم

لقد ظلت المساجد والكتاتيب القرآنية والزوايا والتكايا والربط عبر عهود من الزمن تؤدي ثمارها المطلوب في كثير من علوم الثقافة والتربية والتكوين، حيث كانت في أولية نشأتها عبارة عن مكان لتعليم الصبية القراءة والكتابة، وحفظ سور وآيات من القرآن الكريم، من التي عادة ما كانت تكتب على اللوح وتحفظ عن ظهر قلب، يقرؤونها بتلاحين مختلفة، وكذا حفظ بعض المختصرات أو ما كانت تسمى يومئذ بالمتون الفقهية واللغوية، من التي تحفظ بلا فهم أو استيعاب، والتي كانت من أهم الوسائل التي تقوي الذاكرة وتساعد على يقظة الذهن وتركيز المعلومات،

ثم أخذت هذه البيوتات بُعْدَها في الانتشار في الدرس والتحصيل والعمل على نشر الوعي الثقافي الروحي الديني والاجتماعي، التي كثيرا ما كانت تصل بأصحابها إلى أعلى درجة من معرفة العلوم العقلية والنقلية، مؤدية بذلك رسالتها خير أداء، كونها باتت تعد بمثابة معاهد العلم الأولى، مفتوحة أمام طلبته ومريديه، حتى وصلت إلى أرقى نظم التعليم من حيث المنهج البسيط، والتوجيه التربوي السليم، الذي يخضع للمعنى العميق في حسن أسلوب وسمو معنى وعمق أداء، على ضوء تلك المطولات التي كانت تعد يومئذ من أمهات الكتب العلمية الدينية واللغوية، وذلك بما حوته من دراسات كانت للفكر مفخرة للعقلية العربية الإسلامية المثقفة المتعلمة يومئذ، بما ضمنته من ثقافة أدبية

وفكرية ودينية وقواعد لغوية وأحكام شرعية على ضوء ما جاء في الكتاب والسنة النبوية الشريفة،

وهي كتب قيمة عالية السند ساهمت في تثقيف الناس وتعليمهم علوم دينهم ودنياهم في كثير من أبعاده الثقافية والاجتماعية، وذلك بما كانت تتوافر عليه من جمع لكثير من فنون التفسير والفقه والحديث وعلوم اللغة والبيان، مكونين بها أهل العلم والتربية والتكوين، حلقات درس وتحصيل، ومجالس علم ووعظ وإرشاد،

وقد انحصرت جهودهم فيها على الحفظ والقراءة وتكرار أخبار الأولين من المنظوم والمنثور، وقد تخرج منها فطاحل العلم وعظماء فقهاء اللغة وعلم البيان، والفقه والشريعة وأصول الدين، من الذين تأسست بهم تلك المراكز الدينية التعليمية الكبرى، من التي ظلت تؤدي رسالتها كاملة، وذلك بما كان لها من مشايخ علم كانوا لها أرجح حجة وأقوى منزلة في سعة معرفة وسرعة بديهة، في عمل صالح، وعقيدة ودين وتوجيه وإرشاد،

وآخرون كانوا لها معين ثقافة وفيض مدد، يجمعون بين الفكر والكتابة وموهبة اللغة والبلاغة متمكنين من إظهار قوة عارضتهم في الاجتهاد الموفق بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وقد أسسوا لها من الدراسات صورا فذة في مختلف أبواب اللغة والآداب وعلوم الشريعة وأصول الدين، وكل ما أنتجه العقل البشري يومئذ وعلى مدى قرون من الزمن،

الأمر الذي حدا بي إلى أن أحذو حذو مؤسسيها الأوائل من الذين ثبتوا قواعدها وأسسوا أصولها، مسلحين بكثير من أدواتها في فكر عريض، ومعرفة متشعبة متينة، وثقافة عالية السند، لعلني أحضي يوما باللحاق بهم علما وعملا، أو بصنيع يحسب لي عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون، أو بمكانة غير بعيدة

عنهم، كون نشأتي كانت في أحضان أدواتها الكتابية والقراءة كطالب علم1، مرتحلا هنا وهناك، في العديد من بلدان العالم العربي والإسلامي، كبغداد من أرض الرافدين، ودمشق من بلاد الشام، والأزهر الشريف بأرض الكنانة، والزيتونة بتونس، والقرويين بفاس من أرض المغرب الأقصى، وأماكن أخرى عديدة من التي اشتهرت بكثرة علمائها ووفرة مراكزها العليا من التي لا زالت تحمل على واجهاتها الكثيرة من النقوش والكتابات، تتزين بها أبوابها ومداخلها وإلى اليوم متحدية الزمن في كثير من أبعاده، مؤرخة لأصحابها من الذين كانوا من ذوي العلم والفضل والإحسان، المولعين بتأسيسها، وقد بلغت مداها في الكثرة والانتشار، حتى باتت مذكورة في كثير من كتب التراث العربي الإسلامي، وفي أماكنها المتباينة، وبلدانها المتفرقة المترامية الأطراف، وتدرس في كل عصر وزمان وبكل لسان، مورثة الآخِرَ مكارم الأولين، الناقلة مآثر الماضي، مخلدة آثار علمائها بكامل فضائلهم ومناقبهم في جلال قدر وعزة مكانة،

وقد رزقني الله بسببها تربية أدبية دينية، لما أمدتني به من أسباب الثقافة العربية الإسلامية، وأدوات الكتابة والقراءة من التي دخلت بها تاريخ الأدب والفكر والثقافة، من بابها الرحب الواسع، حتى بات لي من البحوث والدراسات والتآليف المطبوع والمخطوط أو ما هو في طور الإنجاز عددا وافرا،

ما جعل أيامي اليوم والحمد لله تتشح بكثير من معارفها من التي تتصل معانيها بأسباب الدين وتنزيه الخلق2، وهي بحق بيوتات علمية تعليمية تثقيفية

ظلت تساعد الفرد على تكوينه وإعداده كل في بيئته ينشأ ويترعرع في رحابها،

وقد شاء القدر أن يتحقق لي هذا الأمل بإهدائه لي قطعة أرض تجاوزت الألف متر أو يزيد، ذات قيمة عندي معنوية أكثر منها مادية، في وقت كنت فيه أشد ما يكون حاجة إليها، وقد جمعت عندي يومها بين الروح الدينية وبين طموحات كانت لي في زمان، غير مشروطة بشرط فيه من الغرابة ما فيها من الإعجاز، أو مقصورة بغرض من أغراض الحياة الدنيا،

وبدعاء متسم بالعاطفة والعطف ظللت أثني عليه ثناء لا يحده حد، ولا ينتهي عند صفات الشكر والتقدير والاحترام ، حفظه الله ورعاه، وجعلها في ميزان حسناته غدا عند الله، يوم لا ينفع مال ولا بنون، وكأني بها هدية من الله، جاءتني غايتها من ابن عمي لي عزيز كريم، من الذي ظلت تربطني به علاقة حميمية وطيدة الأركان، عميقة الجذور لعدة عقود من الزمن، فكيف لا وهو المعروف بمواقفه الوطنية وأعماله الخيرية، وهو السيد الطيب ابراهيم عبد الغني المعروف بـ: (سي توفيق)3 أبقاه الله وأدام عزه، وقد سبق لي أن عرفت به غير ما مر في كثير من تآليفي في أبوابها المتفرقة وعناوين المختلفة، ولم أقف معه عند هذا الحد فحسب بل ذهبت إلى إفراده بكتاب أسميته (المجاهد الطيب ابراهيم عبد الغني ـ سي توفيق ـ سيرة وجهاد)، والذي هو عندي اليوم في طور الإنجاز وعما قريب سيرى النور والحمد لله،

وبهذه القطعة من الأرض تحقق لي والحمد لله، ما كان عندي يوما موضع آلة تمني في حلم بعيد المدى، أعيشه صباح مساء متضرعا إلى الله سبحانه وتعالى، لعل الله يصل قولي بالصواب، وفعلي بالتوفيق والذي بدونه سيظل الأمر حزازة في قلبي إلى يوم الدين،

وقد عانيت في إنجازها وجعلها حقيقة الوجود، أياما مضنية متعبة شاقة، لا تكاد تقف عند حد، وأنا أنوء بحملها الثقيل، مواصلا عملي فيها وبلا تراخي أو تهاون، وليس لي من المال إلا هذا النصيب الوافر من الذي تفيض به النفس قواها، من التي ينالها الإنسان ما يكمل به سعادته وينال به غايته المثلى والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل،

الدكتور قدور ابراهيم عمار المهاجي

الإدريسي

صرح حضاري ومنهج تعليمي

صرح حضاري ومنهج تعليمي 
بأرض القعدة من بادية امهاجة 
لمؤسسها أ. الدكتور قدور ابراهيم عمار المهاجي 

لقد كان تأسيسي لهذه المدرسة القرآنية عام 2007 للميلاد، على هذه الأرض الطيبة الكريمة، أرض القعدة من بادية امهاجة التي شهدت يوم ميلادي وعز شبابي عدة أسباب، منها على سبيل المثال،  أنها أمدتني بكثير  من سعة القراءة والكتابة وعلوم الفقه  واللغة  العربية وآدابها من جهة، ولما أخذته منها غداة طفولتي عن شيوخها  الكرام وعلماءها  الأجلاء  من الذين  سقلتهم التجربة التعليمية والدرس النافع،  ودربتهم الحياة الدنيا،  

ما جعلها تكون لي دوما ظاهرة آمال وحاضرة أحلام، حتى  باتت  مثلي الأعلى في نطاقها العام من حيث ما أضفى علي مسيرة أناسيها من مكانة مرموقة في الحلم والعلم والتقوى والجهاد وابتغاء الشهادة، ومن صفات اتسمت بكثير من قرائح امتازت باتباعها لكتاب الله وسنة نبيه الكريم في أسلم عقيدة وأعمق إيمان،   

 ولفرحتي وابتهاجي من جهة ثانية بهذا اليوم العظيم،  الذي كان لي معها يوم الافتتاح بتاريخ:  السابع عشر (17) من شهر شعبان 1432 ه، الموافق 11 جوان 2011 للميلاد،  وأي مكانة كانت أعظم عندي من هذا اليوم، الذي أبنت فيه في كلمة افتتاحية  سيرة الآباء والأجداد  من حيث ما كانوا عليه من ثقافة متعددة، وقدرة فقهية لغوية  شملت عندهم الكثير من متونها، المتعلقة بطبيعة الظروف المحيطة بها شعرا ونثرا، إضافة  إلى جانب كبير من أمثال العرب وخطبهم وقصصهم وأيامهم، الذي حضره جمع غفير من أعلام الفقه، وشيوخ العلم  وحفظة كتاب الله،  قلت وأمام جمهور كريم هذه الكلمة التي باتت عندي محل ذكر وإلهام : 

(.. حين تبلغ النية مبتغاها، وتتحقق الآمال ويصبح المشروع إنجازا يكون اليوم حافلا بالمسرات والمفاخر، ويحق لصاحبها (الأستاذ الدكتور قدور ابراهيم عمار المهاجي الإدريسي الحسني) أن يحمد الله على ما أنعم الله عليه من فضله، ..)4 

ذلك هو يوم افتتاح دار القرآن الكريم التي أنجزتها  بهذه البلدة الطيب أهلها من  أرض القعدة، من بادية امهاجة،   وقد عمت الفرحة أرضها ببيوتاتها وقراها ومداشرها، استبشارا بالإحياء لمآثر الآباء والأجداد في ربوع امهاجة، 

وقدْ قَدِمَ إلى هذا الاحتفال جمْعٌ غفير من ربوع الوطن، جاؤُوا في كلِّ رَكْبٍ بهيج، من مختلف الأصناف من فقهاء علماء، ومشايخ زوايا، وأئمة وأعيان البلاد، وطلبة علم وحملة كتاب الله، وأساتذة جامعيين، وشباب البلدية وأطفالها، والكلُّ يحلم أن تكون منارةَ علم في الدرس والتحصيل، والتربية والتكوين، لهذه البلدية، التي باتت تعاني ضعفا من رجال العلم وحفظة كتاب الله، بعد أن كانت يوما منطلق علم ونور وإشعاع فكري، في كثير  من علوم  الفقه واللغة والشريعة والدين، من التي امتد بها الزمان أياما بعيدة، من حيث  تعداد مساجدها وكتاتيبها القرآنية من التي استفاضت الأخبار حولها شهرة ومجدا، في سيرة علم ومعارف وآداب، حيث ظلت ثمراتها تنضج، في عمق فكر وأسلم بيان، بعيدا عن كل مقتبسة، أو مستورد، وأسباب أخرى  من التي تهذب العقل وتقوي الذاكرة،   

وكانت مراسيم الاستقبال تسير على خطة البرامج المسطر لها في التحضير الذي أعده مؤسسها الأستاذ الدكتور قدور ابراهيم عمار المهاجي الإدريسي  بحضور ومشاركة السلطات المحلية،  بعد إشعارها مَسبَّقاً، وقد هيأت السلطات المعنية بأرض القعدة كلَّ مرافق الاستقبال في ظروف طيبة ملائمةٍ، 

 وقد تزينت الطرقُ المؤديةُ إلى دار القرآن الكريم بالأعلام الوطنية،  تعلوها صورة رئيس  الجمهورية الجزائرية يومئذ، في مشهد كبير على جُدُران الدار،  

وتم الاستقبال عل سبيل التدشين باستقبال ضيوف الدار  بالتمر والحليب في ساحتها الكبرى التي تتربع على مساحات شاسعة، وفي فنائها تلاحقت الوفود التي جاءت من كل حدب وصوب ممثلة لولايات الوطن، واجتمعت الضيوف والأعيان وأبناء القرية ورجالاتها، 

 وبعدها دخلت الوفود إلى حرم الجامع الذي يتسع في طابقيه إلى ما يزيد على 900 (تسعمائة مصلِّى )،  

 وقد عرف الجامع زخارفَ ذاتَ بهاءٍ وجمالٍ، زَادَهَا النقش الأندلسي ألمغاربي أصالةً ورونقاً، وتعالت أصواتُ الطلبة وحفظت القرآن الكريم، بالقراءة الجماعية للقرآن الكريم، مُفْتَتِحِينَهُ بسورة الفاتحة، ثم سورة البقرة، ثم المواصلة بالحزب والحزب الذي يليه، حتى جاء وقت الافتتاح الرسمي الذي تضمن الجدولَ الآتي:  افتتاح الملتقى، بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم  كلمة مؤسسها الأستاذ الدكتور قدور ابراهيم عمار المهاجي الإدريسي، ثم كلمة السيد رئيس الاتحاد الو طني للزوايا الجزائرية للدكتور محمود شعلال،  ـ ثم كلمة السيد سي الطيب الحبيب مفتش التوجيه الديني والتعليم القرآني لولاية تلمسان، ثم كلمة السيد مدير الشؤون الدينية والأوقاف لولاية تلمسان، ثم الكلمة التوجيهية للدكتور محمد عباس من جامعة تلمسان،  

 وفي هذا اليوم وبهذا الافتتاح لدار القرآن الكريم تكون الفرحة قد تمت بكاملها عندي، وكثير من الأهل والأقارب وبني قومي بأرض القعدة، إيمانا بأنها ستكون إن شاء الله تعالى  يوما، حاضرة علم وتعليم، ودار قرار لي عند الممات إن شاء الله تعالى، 

وبهذا الإنجاز العظيم الذي كان لي على الدوام محل آمال، أعيشه ليلي نهاري وفي كثير من مشاعر فياضة،  وعواطف وأحاسيس وانفعالات، استقر عندي المقام ثانية بهذه القرية التي عاشت أيامها في جلسات علمية، ومناظرات  بين العديد من رجالات  الفكر والثقافة والتربية والتكوين، وعدد غير يسير من شيوخ العلم وفقهاء الشريعة وأصول الدين، في حوارات مستملحة ونوادر مستظرفة، وكانت عند الجميع  موضع القبول والرضا في سنين، 

لقد شهدت هذه الديار زمان طفولتي وأيام شبيبتي، في أسرة كانت لي موضع  إعجاب وتقدير، في  رغد عيش وجمال سعادة، وصلابة عود وقوة جلد وشعلة عزيمة، في طلب العلم وحفظ القرآن الكريم، الذي كان لي فبها في أعم درس وأتم فائدة، حاملا معي رضا والداي بكامل أبعادهما وآفاقهما، 

صورة لجمع من  تلامذة دار القرآن 
 غداة الافتتاح  من عام 2011 للميلاد، 

يمثل هذا  المنظر  جانبا من جوانب دار القرآن الكريم  المتعددة،  التي  باتت تشبه في تصميماتها نوعا من الطراز العربي الإسلامي  الأندلسي الجميل، كونها تتكون من طابقين للصلاة وللعلم والعبادة، وقبة تتوسطها علوا وارتفاعا، وأعمدة  وجدران  تكاد تكون في مجموعها مكسوة بالجبس في نقوش  وزخاريف من التي ذهبت  بها الأيادي عن كل ما هو فن وإبداع،  المتمثل في  ذاك التراث العربي الإسلامي الموروث  منه والمكتسب، من الذي حفلت  به  العمارة العربية الإسلامية عبر  عهود من الزمن، في كثير من بيوتات العلم ودور الثقافة والتربية والتكوين، حرصا مني على عمل يخلد به الإنسان يوم لا ينفع مال ولا بنون،  والله سبحانه وتعالى المحمود على نعمه، ومواهب لطفه وكرمه، على ما يسره لي   بمنه وفضله على إتمام هذا العمل العظيم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل،                       

               عمار المهاجي 

1 Comments on “المدرسة القرآنية”

  1. منذ يوم الافتتاح لم يبخل أستاذنا وشيخنا عن أبناء القعدة باي مجهود حتى يتمكن كلهم من تعلم القرآن وحفظه وتفسيره، وبتوفيق من الله تم على بركة الله تخرج اول حافظ للقران الكريم في السنة الأولى من الافتتاح. وفق الله ابي وأستاذي وسيدي ومعلمي الدكتور قدور ابراهيم عمار المهاحي لما يحبه ويرضاه ومتعه بالصحة والعافية وطول العمر.

    إعجاب

اترك رداً على قدور ابراهيم وفاء المهاجية إلغاء الرد